قام مشروع نفذته منظمة الأغذية بتطوير ممارساتٍ صحية جيدة لمنتجي البن تهدف إلى تخفيض تلوث حبوب البن الخام بسمّ فطري قوي…
ربما كانت غالبية شاربي القهوة لم تسمع من قبل بالأوكراتوكسين A (أو OTA). وهو سم طبيعي شديد السمية للكلى ولربما كان مسرطناً، ينتجه عفن فطري يوجد أحياناً على حبوب البن الخام أو “الخضراء” – ولا يزول تماماً بعد تحميصها.
لم يكتشف وجود سم الأوكراتوكسين A في مشروبات القهوة إلا حديثاً، في 1988. وقد قام الاتحاد الأوروبي بعد مدة قصيرة من هذا الاكتشاف بإطلاق برنامج للتوفيق بين لوائح نسب السموم الفطرية في المواد الغذائية – ومن ضمنها الحدود القصوى لسم أوكراتوكسين A في البن. حيث أطلق هذا الموقف أجراس الإنذار في ميدان تجارة البن العالمية التي تبلغ قيمتها 70 مليار دولار في السنة: حيث تبين لدراسة أجراها الاتحاد الأوروبي للبن (ECF) – الذي يمثل مستوردي البن الأخضر وشركات التحميص وشركات صناعة البن سريع التحضير – أن تحديد نسبة 5 أجزاء بالمليار من الأوكراتوكسين A (PPB) قد يؤدي إلى رفض 7% من واردات البن الأخضر وأن كافة البلدان المصدرة للبن سوف تتضرر من جراء ذلك.
وقد جادل الاتحاد الأوروبي للبن بأن تدابير مراقبة الأوكراتوكسين A في الموانئ الأوروبية ستكون أكبر تكلفةً، وأقل فعاليةً، بكثير من العمل على تخفيض التلوث عند مصدره – أي في البلدان المنتجة للبن. ووافقت البلدان المنتجة على ذلك، ليس بسبب المخاوف على سلامة الأغذية فحسب، خصوصاً مع وجود زهاء 20 مليون أسرة مزرعية صغيرة في 50 بلداً نامياً تعتمد على زراعة البن، وتشكيل البن حصةً كبيرة من إيرادات التصدير في العديد من البلدان، بل وكذلك حرصاً منها على تجنب الفوضى الاقتصادية الناجمة عن رفض شحنات كبيرة من البن.
الوقاية والتخفيض: كان هذا هو المنفذ الذي دخلت منه المنظمة. بناءً على طلب تقدمت به منظمة البن الدولية (ICO) التي تمثل البلدان المصدرة والمستوردة للبن، والصندوق المشترك للسلع الأساسية التابع للأمم المتحدة، قامت منظمة الأغذية والزراعة عام 2001 بإطلاق مشروع “لتحسين جودة البن من خلال منع تكون العفن الفطري”. حيث تقول ريناتا كلارك خبيرة سلامة الأغذية لدى المنظمة، والتي تولت قيادة المشروع الذي بلغت كلفته 6.3 مليون دولار ” لقد كانت الاستراتيجية الأساسية هي تمكين البلدان المنتجة للبن من تطوير وتنفيذ برامجها القطرية للوقاية من التلوث بالأوكراتوكسين A وتخفيضه.”
فعمل المشروع خلال السنوات الخمس اللاحقة يداً بيد مع 30 بلداً تقدم نحو 93% من صادرات البن العالمية. حيث عمق الفهم العلمي للعوامل المسببة للتلوث بالأوكراتوكسين A، ووضع استراتيجيات للوقاية عند النقاط الرئيسة في سلسلة التزويد، كما طور ممارسات صحية جيدة يجري الآن نشرها بين مزارعي البن ومصنّعيه وناقليه في أرجاء العالم.
وقد كان من بين المهام الأولى للمشروع استقصاء العوامل المسببة للعفن الفطري في البن، بغية تطوير نموذج لتحليل مصادر الخطر ونقاط الرقابة الحرجة (HACCP) من أجل مكافحة تشكُّله، إلى جانب تطوير استراتيجيات للوقاية أثناء عمليات المعالجة والتجفيف والمناولة والتخزين الأولية للبن. وبالتعاون مع معاهد البن المتخصصة في البرازيل وكولومبيا وكورت ديفوار (ساحل العاج) والهند وإندونيسيا وكينيا وأوغندا، نفذ المشروع عمليات مسح لمعرفة الكيفية التي يتبعها المزارعون في قطف ومعالجة البن، وكيف يجري التفاعل بين الممارسات المزرعية وبين الفطر المسبب للسم.
حيث أثبت الفحص المكثف لعيناتٍ من التربة أن الفطر الرئيس المسبب للأوكراتوكسين A ، وهو Aspergillus ochraceus، يوجد في التربة المحيطة بجذور أشجار البن أكثر من وجوده في الترب الأخرى. وخلص المشروع إلى أن “البن الذي كان على تماسٍ مباشر مع التربة لأكثر من بضعة أيامٍ يشكل خطر تلوثٍ بالأوكراتوكسين A . ومن ثم يجب استبعاد هذا البن من السلسلة الغذائية.” كما أثبتت التجارب الأولية أن تعرض أزهار البن لأبواغ فطر Aspergillus ochraceus يمكن أن يؤدي إلى إصابة الحبوب به.
ولقد كانت هناك مسألة أخرى موضع تساؤل، وهي وجود رابطة بين التلوث بالأوكراتوكسين A وبين العيوب الموجودة في ثمار البن الخضراء. وأشارت بعض الدلائل التي جمعها المشروع بالفعل إلى وجود “ترابط قوي” بين عيوبٍ بعينها وبين التلوث بالأوكراتوكسين A – ولكن ليس في جميع الحالات. حيث أظهر مسح أجري في كينيا مثلاً أن الأوكراتوكسين A كله تقريباً كان متركزاً في الحبوب المصنفة على أنها “مريضة” و “تالفة بفعل الحشرات”. غير أن عمليات المسح التي أجريت في بلدان أخرى لم تظهر أي ارتباط بين العيوب وبين الأوكراتوكسين A.
ومهما كانت الرابطة، ثمة استنتاج آخر أثار حفيظة مديري المشروع – وهو أن ثمار البن المشوهة تخلط بصورة روتينية مع البن الأقل جودة، الذي غالباً ما يجري تحميصه في البلدان المنتجة من أجل الاستهلاك المحلي. وتقول ريناتا كلارك “وإذا ثبت وجود الأوكراتوكسين A بصورة متفاوتة في العيوب، فإنه يوجد في الأسواق المحلية لمنتجي البن ما يستدعي القلق على الصحة العامة.”
انتقال حرج: لقد أخضعت ممارسات التجفيف كذلك للتفحّص الدقيق. حيث أن تجفيف ثمار البن مرحلة انتقالية حرجة بين حالة الرطوبة التامة – التي تثبط الكائنات الماصّة للماء والتركيب الفيزيولوجي للبذور خلالها عملَ الأعفان المسببة للسموم والأعفان المسببة للتلف – وبين حالة الجفاف التام، التي تحول دون أي تطورٍ للعفن. لكن مستويات الرطوبة الوسيطة توفر بيئة مواتية لنمو الكائنات المسببة للأوكراتوكسين A. ولذلك – حسبما تقول ريناتا كلارك – “فإن وضع خطة فعالة مرتكزة على الأخطار لمعالجة البن يتطلب إيلاء مرحلة التجفيف عناية خاصة. حيث كان من الضروري تحديد أخطار الأوكراتوكسين A المرتبطة بالتجفيف بأكبر قدر ممكن من الدقة.”
إن الأسلوب الشائع لتجفيف البن هو نثرها على شكل طبقة رقيقة تحت أشعة الشمس. وقد وجد المشروع أن العامل الأهم المنظم لوتيرة التجفيف هو الطقس – المطر والندى، وكذلك نسبة الرطوبة العالية أو الغيوم التي تحجب أشعة الشمس. وثمة عامل هام آخر هو كمية ثمار البن المنشورة على مساطب التجفيف: حيث أن الطبقات الأكثر كثافة تحدّ من وتيرة التجفيف. ومع ذلك، ثبت في تجارب كثيرة أنه لا توجد علاقة بين وجود الكائنات المسببة للأوكراتوكسين A والتلوث به وبين الاختلافات في ممارسات التجفيف.
لكن الخبيرة أضافت أنه مع ذلك ما زال هناك “ثغرة واسعة” في المعرفة المتصلة بمجموعة العوامل التي تقود إلى التراكم الكبير للأوكراتوكسين A أثناء التجفيف.
فعلى الرغم من أن مستويات معينة من الرطوبة قد تشجع على وجود الكائنات المسببة للأوكراتوكسين A، فإن تطور العفن وإنتاج الأوكراتوكسين A لا يحدثان إلا عند توفر ظروف أخرى بعينها. “ولأننا لا نعرف الظروف المواتية بالضبط، تبقى أفضل نصيحة هي التجفيف بأسرع وقت ممكن بغية تجنب التلوث.”
بعد تجفيف حبوب البن الخضراء، يجري في العادة تخزينها لأيام أو أسابيع أو حتى شهور، ويجب خلال هذه المدة إبقاء مستويات الرطوبة منخفضة بقدر يكفي لمنع نمو العفن. إذ لم تسجل في مرافق التخزين الجيدة خلال ستة أشهر سوى زيادات طفيفة في الرطوبة، ولم تصل أبداً إلى مستوى يسمح لأي خطر بنشوء العفن. إلا أنه في بلدان كثيرة، غالباً ما تخزن الثمار المجففة في مرافق بدائية غير مناسبة (تحت السرير على سبيل المثال). وفي تلك الحالات يمكن أن تصل إعادة امتصاص الثمار للماء مستويات قد تسمح بنمو العفن. وقد وجدت التجارب التي أجراها المشروع أن التميّؤ “السلبي” لثمار البن – الناجم عن امتصاص الرطوبة من البيئة – أدى إلى زيادة قليلة في حالات وجود الفطريات المسببة للأوكراتوكسين A.
وأخيراً، درس المشروع ما إذا كان النقل الدولي لثمار البن الخضراء يخلق ظروفاً مواتية لتطور الكائنات المسببة للأوكراتوكسين A وتراكمه. حيث أثبتت قياسات الرطوبة النسبية في الحاويات أثناء الشحن إمكانية حدوث تكاثف يمكن أن يؤدي إلى إعادة الرطوبة إلى حبوب البن. وقد أوصى المشروع باتخاذ تدابير لمنع إعادة الترطيب مثل التأكد من جفاف البن المصدّر إلى حد ملائم عند التحميل وإبقائه جافاً بتغطيته بمواد ماصة للرطوبة.
الممارسات الصحية الجيدة: وبناء على التجارب وعمليات المسح التي نفذها على مدى خمسة أعوام، خلص المشروع إلى أن أفضل أسلوب لمنع تكون العفن والتلوث بالأوكراتوكسين A في البن- بعد قطفه – هو كفالة وجود مستويات آمنة للرطوبة بأسرع وقت ممكن، إضافةً إلى منع الرطوبة عن الثمار. وقد أثبتت الفحوصات أن التوصيات الحالية لمنظمة البن الدولية بشأن الحد الأقصى للرطوبة في ثمار البن الخضراء (12.5%) تنسجم مع منع نمو الكائنات المسببة للأوكراتوكسين A.
لكن المشروع أثبت كذلك أن تلوث حبوب البن بالأوكراتوكسين A وهي ما زالت على الأشجار يمكن أن يكون كبيراً ومهماً، ومن الضروري القيام بالمزيد من العمل لفهم الآليات المتصلة بالتلوث بالعفن وتراكم الأوكراتوكسين A أثناء عمليات الإنتاج الأولية.
تقول ريناتا كلارك “إن إدارة خطر التلوث بالأوكراتوكسين A في البن يتطلب إدارةً أفضل لسلسلة التزويد بالبن، من الشجرة إلى المنتَج النهائي. والعوامل الرئيسة في الإدارة الناجحة هي الممارسات الصحية الجيدة على امتداد السلسلة، والتجفيف السريع، وتجنب إعادة ترطيب البن من خلال كفالة النظافة والجفاف أثناء التخزين والنقل.”
ومن أجل مساعدة البلدان المنتجة في تطبيق تلك الممارسات الجيدة، تم إدراج نتائج التجارب وعمليات المسح الميدانية ضمن واحدة من أكبر مخرجات المشروع، وهي خطوط إرشادية لمنع تكون العفن في البن، كما تم طبع أداة شاملة لاستخدام مورد الأقراص الحاسوبية المدمجة بغية مساعدة معاهد البن في تطوير برامج صحية. وعلاوة على ذلك، يجري إدماج الممارسات الصحية الجيدة ضمن أبحاث المعاهد في مجال الممارسات الزراعية وممارسات إدارة المزرعة الجيدة، وذلك من أجل نشرها عبر دوائر الإرشاد المزرعي.
وقد قام المشروع كذلك بتنفيذ سلسلة من نشاطات التدريب الإقليمية وتحت الإقليمية والقطرية بغية زيادة التوعية على مبادئ صحة الغذاء داخل قطاع البن نفسه. حيث تم تنفيذ دورات تدريب مدربين (ToT) – تستهدف المرشدين والباحثين في مجال البن والوكالات المعنية بسلامة الأغذية ومؤسسات البحوث – في كل من الإكوادور وغواتيمالا والهند وإندونيسيا وكينيا ورواندا وأوغندا. كما عقدت دورات مماثلة باستخدام مواد تدريب طورها المشروع في تايلاند وأوغندا وفيتنام. وعلاوة على ما سبق، قام المشروع بتنظيم أو المشاركة في ندوات لتحسيس صانعي القرارات في غواتيمالا وإندونيسيا وكينيا وتايلاند وأوغندا وفيتنام بمشكلة التلوث بالأوكراتوكسين A.
“هبوط ملحوظ:” حينما وصل المشروع إلى نهايته في يوليو/ تموز 2006، كالت صناعة البن المديح له على إنجازاته. فمن خلال عمليات المسح التي أجريت على حبوب البن الخضراء التي دخلت إلى الاتحاد الأوروبي، لاحظ فريق المهمة المعني بالأوكراتوكسين A التابع للقطاع الأوروبي للبن انخفاضاً ملموساً في مستويات الأوكراتوكسين A بين عام 1995، حينما بدأ الرصد، وبين 2004، حينما كان مشروع المنظمة يعمل بكامل طاقته. وبوجه عام، انخفضت المستويات من نحو 2 جزء بالمليار خلال الفترة 1995- 1998 إلى ما دون 1.3 جزء بالمليار خلال الفترة 2002- 2004.
وحينما وضعت لمساتها الأخيرة على تقريرها المكون من 350 صفحة، أسدت ريناتا كلارك نصيحة إلى “النصف الآخر” من قطاع تجارة البن العالمية، أي المستوردين والمصنعين الذين يحصلون على نصيب الأسد من الأرباح الناشئة من بيع ثمار البن الخضراء المنعشة. حيث قالت ريناتا “إن المشكلة الأساسية تكمن في أن الاتجاه العام في سوق البن – الذي توجهه قوى السوق في القطاع الدولي للبن – لا يميز بالفعل بين البن الذي تتم مناولته وفقاً للممارسات الصحية الجيدة وما عداه من البن. ويعد تقديم دفعات تحفيزية للمزارعين الذين يطبقون الممارسات الجيدة في إنتاج البن ومناولته عاملاً مهماً لتغيير سلوك المزارعين.”
ومن الجدير بالذكر أنه تمت إتاحة المعارف والأدوات التي تولدت عن مشروع الأوكراتوكسين A على أحد مواقع الويب التابعة لمنظمة الأغذية والزراعة للاستخدام من جانب كافة منتجي البن في العالم. علماً بأن لمنظمة البن الدولية، على وجه الخصوص، دوراً حاسماً يمكن أن تؤديه في مجال نشر النتائج التي توصل إليها المشروع في البلدان المنتجة، وكذلك في رصد متابعة تنفيذ توصيات
السحر الأسود
بعد النفط والمطاط، تكسب أموال من حبوب البن أكثر مما يكسب من أي سلعة أخرى يجري تسويقها بصورة قانونية. حيث تشير التقديرات إلى أن الاستهلاك العالمي من البن يزيد على 6 ملايين طن سنوياً، كما تقدر مبيعات التجزئة منه، في أوروبا والولايات المتحدة اليابان بشكل رئيس، بنحو 70 مليار دولار في السنة. يدفع منها نحو 6 مليارات دولار للبلدان النامية التي تنتج المادة الخام